غصّة الفهم، وولادة الترجمة
- Lina Alshamiri
- Aug 21
- 2 min read
Updated: Aug 26
كل لغةٍ عالمٌ قائم. لولا الترجمة، لعشنا في أبرشيات محاصرة بالصمت. —جورج شتاينر
الترجمة ليست عبور الكلمات، بل تحوّل في روح النص بين لغتين.كل جملة نفهمها هي ترجمة صامتة، وكل إصغاء للمعنى هو محاولة عبور من ضفة إلى أخرى.
في أيام دراستي الجامعية للترجمة واللغة، كنت أمر بمحاذاة الترجمة وكأنها مجرد مهنة أخرى، ثم بدأت أعي أنها قدر إنساني؛ نحن لا نكفّ عن الترجمة، من شعور إلى كلمة، من ذاكرة إلى قصة، من نظرة إلى اعتراف.
في عام 1975 كتب جورج شتاينر كتابه «بعد بابل» الذي يُعدّ من أعظم ما كُتب عن الترجمة. لم يكن مجرد بحث لغوي، بل رؤية جذرية: الفهم ذاته فعل ترجمة، وكل لغة هي عالم قائم بذاته. من دون الترجمة، نبقى في جزر معزولة محاصَرين بالصمت.

وكما أن القراءة هي عبورٌ من نطاق إلى آخر عبر جسرٍ من الكلمات، يمكن القول إن الترجمة هي العبور الأعظم. لكنها ليست عبورًا لغويًا فقط؛ نحن نترجم الحب حين نحاول قوله، نترجم الخوف حين نضعه في اعتراف، نترجم ذاكرتنا إلى حكاية. كل حياة بشرية، في النهاية، هي حشد من اللحظات تُرجم ليصيغ معنى ما.
حين نغوص في «بعد بابل» ندرك أنه ليس كتابًا عن الترجمة فقط، بل عن اللغة نفسها كشرط إنساني. شتاينر يرى أن كل تواصل هو ترجمة، وأن كل فعل للفهم يتطلب عبورًا من عالم داخلي إلى آخر. عبارته الشهيرة: "أن تفهم هو أن تفكّ شيفرة. أن تسمع معنى هو أن تترجم." تختصر الأطروحة. وإذا حاولت أن أترجم هذه الفكرة إلى صورة ملموسة، أراها كغصّة في الحلق نتلقفها، نخشى أن تختفي، نخزّنها في صدورنا ثم نعيد إخراجها وإن كانت مرتبكة، لكنها حيّة.
لهذا اعتُبر الكتاب عملًا ثوريًا حيث وصفه بيتر بوش من مركز الترجمة الأدبية بأنه "عمل رائد يكشف أن كل تواصل هو في أصله ترجمة."، بينما رأى دانيال هاهن أنه "نص استثنائي في مساهمته بالدراسات الترجمية مع بقاءه متاحاً وسهل القراءة نسبياً لمن لم يفكر بالمسألة ملياً من قبل." هذه الآراء تكشف أن الكتاب لم يكن موجهًا إلى الأكاديميين فقط، بل إلى أي قارئ يسعى لفهم كيف تُشكّل اللغة وجودنا.

ومن زاوية بحثية أعمق، يرى بعض الدارسين أن «بعد بابل» أسّس لما يُعرف اليوم بـ دراسات الترجمة التأويلية، حيث يصبح الفهم والترجمة والتواصل مفاهيم متشابكة إلى حدّ يصعب فصلها. وهنا يكمن تفرد الكتاب في أنه يلتقطنا كبشر مترجمين بالضرورة: لا ندرس اللغات فحسب، بل نعيش داخلها، في محاولة دائبة لأن نجعل من ضجيجها جسرًا للقاء.
«بعد بابل» ليس من النصوص التي تُغلق بإجابات، بل من تلك التي تفتح أسئلة لا تنتهي. منذ صدوره عام 1975 وهو يصرّ على أن نعيد التفكير في ماهية الفهم ذاته ليغدو الكتاب مساحة يتقاطع فيها علم اللغة مع الفلسفة، والبحث الأكاديمي مع حشرجة الإنسان الدائبة في سعيه للفهم والتواصل.